Saturday, April 5, 2014

كتاب أصداء الذاكرة للعم عبدالعزيز الشايع -الجزء الثاني

كتاب اصداء الذاكرة – الحياة في الهند –الجزء الثاني

كنت اذهب الى مدرستي كل يوم بواسطة الترام، وكان مصروفي الاسبوعي روبية واحدة وهي تعادل 16 آنه أو 64 بيزة. وهو مبلغ معقول في ذلك الوقت. فعلى سبيل المثال عندما كنت اجلس في المقهى قليلاً كمن ادفع بيزتين ثمناً لفنجان الشاي، أما الغداء فكان يكلف آنتين فقط أي ثمن روبية ،وهو عادة يتكون من الرز والمرق فحسب بدون مقبلات أو حساء أو أي شيء آخر. وكنت ادد وأحسب مصاريفي بدقة حتى تكفيني تلك الروبية طوال الاسبوع. ورغم اختلاف اجواء المدرسة في بومباي عن اجواء مدارس الكويت لجهة التنوع ومستوى الدراسة، فإنني وبعد مرور 3 سنوات على دراستي في بومباي شعرت بالملل والضجر الشديدين ،فعدت إلى الكويت لفترة لم تطل كثيراً بسبب اصرار عمي على عودتي الى الهند للعمل معه في المكتب لأنه بحاجة إلي ،ولم يكن بالمستطاع الاعتراض على قرارات الكبار ،فعدت ثانية إلى بومباي مع عمي. ومما أتذكره بعد عودتي تلك أنني كنت واقفاً ذات يوم في موقف للباصات فشاهدني الكاهن مدير مدرستي التي كنت قد تركتها قبل سفري للكويت ،فتذكرني وأقبل ليسألني: هل أن هنا في بومباي؟ لماذا لم تلتحق بالمدرسة اذا؟ فأجبته بأني أنهيت الدراسة. فقال لي: أنت على خطأ، فقد منت طالبا مجتهداً وحصلت على درجات وعلامات جيدة جداً، فلماذا لا تعود، فقد كنا ننوي ترقيتك لصفين، انت ذكي وخسارة أن لا تكمل دراستك؟..

شهادة الهاي سكول
والغريب أنني وبعد مرور كل تلك السنوات الطويلة لم انس ذلك الحوار العابر الذي يبدو أنه عزز الثقة في نفسي ورفع الكثير من معنوياتي ،ومع ذلك لم التحق بالمدرسة واكتفيت بما تلقيته من تعليم في الكويت والهند، خصوصاً وأنني في هذه الاثناء كنت قد باشرت العمل مع عمي في مكتبنا، لكنني حينما استلمت شهادتي من "سان جوزيف هاي سكول" وكانت درجاتي عالية كنت فرحاً بهذه الشهادة وجلبتها أريها لعمي علي مفتخراً بها علماً بأنني حينها كنت قد بدأت رحلة العمل فعلاً معتمداً على المعلومات التي اكتسبتها من والدي وعمي وما تعلمته في المدرسة من لغة انجليزية وعلوم اخرى، بالإضافة الى قراتي الخاصة المستمدة من روح الهواية للعمل التجاري، ويبدو أن هذه العناصر كانت كافية آنذاك لبدأ الرحلة.
وأعتقد أني أجدت لغة الأوردو المتعلقة بالتجارة والتعاملات اليومية أكثر من سواها ،كالأدبية المعمقة أو الكتابة، لكن تعاملي بالإنجليزية كان اكثر عمقاُ، فكنت أقرأ الصحف الهندية باللغة الانجليزية التي كانت تأتينا يومياً الى المكتب لأن ابن عمي صالح الشايع كان يهتم بالقراءة كثيراً. ولم اشعر بصعوبة القراءة والكتابة باللغة الانجليزية.
وأود أن أشير هنا إلى أن الكويتي لم يكن بحاجة إلى فيزا أو "اقامة" في الهند ،وذلك لأن جميع بلدان الخليج بما فيها الكويت كانت تحت الحماية البريطانية ممثلة بحكومة الهند البريطانية ومقرها نيودلهي ويرأسها Vicroy "فايسروي" وهو ممثل ملكة بريطانيا في الهند وعمليا وسياسياً هو حاكم الهند والخليج. وكان آخر فايسروي هو اللورد مونتباتن وهو ابن عم الملكة وفي اثناء حكمه الهند تم الاستقلال.
وعندما انتهت صلاحية جواز سفري الكويتي، وحيث مكثت في بومباي لأكثر من سنة بعد انتهاء الصلاحية ،كان بالإمكان الذهاب بسهولة الى مركز الاقامة في بومباي لتجديد الاقامة والسماح بالسفر مجددا لصاحب الجواز المنتهية صلاحيته من دون أي مشاكل.
ولكن جددت جواز سفري مرة واحدة في كراتشي وليس في بومباي حيث اقيم، فقد كانت السلطة في بومباي في ذلك العام تحديداً متشددة مع الكويتيين بسبب بعض المشاكل المتعلقة بتجارة الذهب.

مكتب الشايع في الهند
تأسس مكتبنا التجاري في بومباي في عام 1896 م، أي قبل وصولي لبومباي ب 46 سنة. فقد وصل عمي علي غلى بومباي اولاً في عام 1894 وبقي سنتين منهمكاً في العمل قبل أن يتمكن من تأسيس المكتب الذي كان يقع في شارع "ناجديفي ستريت- 178" وهو مكون من المكتب وصالة رئيسية وممر يؤدي الى غرفة النوم، والي اليسار هناك غرفتان للضيوف وحمام ومطبخ. ولازلت احفظ رقم هاتف المكتب وهو 34634.
ولابد لي من الاشارة الى أن فكرة تأسيس مكتب الهند انبثقت من العائلة في الكويت ،ويومها كان والدي محمد حمود الشايع في بدايات عمله بالتجارة، وكان يملك محلاً صغيراً لايتسع لعمل شخصين فيه، لهذا اقترح على عمي السفر الى بومباي بهدف توسيع نشاط العائلة التجاري في اهم مركز تجاري وبحري في المنطقة في ذلك الوقت.
وكان عمي علي وقتها شاباً في مقتبل العمر ولا يملك خبرة كبيرة تسمح له بإنجاز هذه المهمة مباشرة لوحدة. لكن من محاسن الصدف أن صديقاً للعائلة هو عثمان الراشد الحميدي كان يستعد للسفر الى بومباي ،وقد سبق له التردد عليها من قبل، فقد كان من أولئك الذين كانوا يمكثون في بومباي لفترات تصل الى سبة اشهر في كل مرة ومن ثم يعودون الى الكويت. وقد كان هذا كافياً لكي تطمئن العائلة لسفر عملي علي برفقة عثمان وابنه صالح، وهكذا سافر الثلاثة الى بومباي، واتفقوا على اقتسام مصاريف السفر فيما بينهم بحيث يدفع عمي 50% منها بينما يدفع الراشد مع ابنه 50% ايضاً وقد تكررت هذه الواقعة وبعد سنوات قليلة قرر عبدالرحمن البحر أن يرسل اخاه أحمد البحر إلى بومباي بصحبة عمي علي، وفعلاً سافر معه واستقر في مكتب وسكن الشايع لأقل من سنة، وعمل كمحاسب في المكتب ليتمرن على العمل في الهند وبعدها رجع الى الكويت ولم يسافر مرة اخرى.
وهكذا بدأت الخطوة الأولى لعملنا التجاري في الهند منذ تلك السنة أي قبل 116 سنة فقد بقي عمي علي لمدة تسعة اشهر في بومباي تعرف فيها على اصول العمل التجاري والقوانين الهندية المتعلقة بالتجارة، كما تعرف على المدينة والميناء وكل الاجواء العملية المحيطة بالعمل، ثم عاد الى الكويت لرؤية الاهل وبعد فترة عاد مرة اخرى الى بومباي وبقي فيها لمدة تسعة اشهر اخرى، بدأ فيها مراسلاته الخاصة مع والدي وما اعقب ذلك من إرساله للبضائع إلى مكتبنا في الكويت حيث كان والدي يتولى عملية بيعها.

عاملون كويتيون
وبعد مرور سنتين، توسع عمل عمي علي في الهند فأخذ يتعامل مع تجار كثيرين بالقومسيون ،اضافة الى الغرض الاساسي من المكتب وهو تصدير البضائع الى مكتب الشايع في الكويت، ولذلك استدعت ضرورة العمل فتح مكتب والحصول على تصريح رسمي لممارسة النشاط التجاري. واستمر عمي علي يعمل لوحدة في ذلك المكتب حتى عام 1925 حيث استدعى ابنه صالح للعمل معه وكان عمره وقتها 14 سنة.
استقر صالح الشايع في بومباي منذ ذلك الحين، فأكمل دراسته عن طريق المدرسين الخصوصيين، وساعده في ذلك ميولة الادبية وشغفة بالقراءة وسعة اطلاعه على الكثير من الجوانب المعرفية والثقافية التي كان ينميها دائماً بمطالعة الكتب، وقراءة المجلات المصرية التي كانت تصله عن طريق الاشتراك الشخصي بها. وفي الوقت نفسه انهمك في مساعدة عمي فلي في العمل التجاري.
ومن الجدير بالذكر أن كل العاملين في مكتبنا كانوا كويتيين، اتذكر المحاسبين الذين عملوا في المكتب وهم عبدالرحمن عبدالله الرويح ومحمد عبدالمغني وحمود العنجري وعلي الخضيري وعبدالرحمن عبدالمغني وعبدالعزيز المرشد وعلى العمران وآخرون. وهؤلاء طبعاً كل واحد منهم يعمل لفترة محددة وبعدها يستقيل ونأتي بآخر ،وكان على الخضيري قضى أطول فترة ربما تزيد على 10 سنوات وبعدها غادر للكويت وعمل في مكتب الكويت لفترة وبعدها تفرغ لعمله الخاص. وبعدها كان عبدالرحمن عبدالمغني وبقي مدة طويلة أيضاً.
كما أن المراسل كويتي والطباخ كويتي وذلك لأن الكويتيين بسبب طموحهم وحبهم للعمل كانوا يسافرون إلى الهند سواء للتجارة أو للعمل في المكاتب هناك لفترة معينه وبعدها يقومون بعملهم الخاص وجميع من طبقوا ذلك اصبحوا تجاراً بأعمال مختلفة في الكويت.

مشكلة المصعد وتغيير المكتب
اما أنا فقد بدأت عملي في هذا المكتب مساعداً لعمي علي، وكنت في الوقت نفسه، اتعرف الى العمل منه ومن الاخ صالح للتدرب على كل تفاصيل العمل التجاري، فإذا كان عمي موجوداً أكون مساعده وحينما يحل صالح محله اعاونه، واستمر هذا الوضع لفترة ليست طويلة، الى أن بدأ صالح يسافر بشكل دائم ولا يعد عمي يتواجد في بومباي كثيراً، فبدأت أقوم حينها بكل المهمات المتعلقة بالعمل في المكتب.
وقد بقي هذا المكتب مستأجراً لعائلة الشايع حتى ستينات القرن الماضي. ولما كان المكتب يقع في الدور الرابع وليس فيه مصعد ،فقد اضطر الاخ صالح الي بيعة بمبلغ وقدرة 55 الف روبية، واستأجر بدلا منه مكتباً آخر يقع في منطقة "دوبي تولاو" في الدور الاول، فلم يعد يحتاج الى صعود سلم طويل لوصول الى المكتب كما كان الوضع في السابق.
ورغم ان المكتب كان يمر بإخفاقات ونجاحات في فترات متفاوته مثله ومثل أي عمل تجاري آخر، فإن العمل فيه تطور بشكل جدي وحقيقي منذ عام 1939 م أي مع بداية الحرب العالمية الثانية وحتى عام 1948م، فقد كان للكويتيين مكانه كبيرة في بومباي آنذاك ،وكانوا يتواجدون في "ناجديفي ستريت" و "محمد علي رود" و "عبدالرحمن ستريت" ومن ابرز المتواجدين آنذاك حسين بن عيسى القناعي والشيخ عبداللطيف العبدالرزاق وحمد القاضي وحمد السلطان بن عيسى القناعي وعلى حمود الشايع وخالد الخميس وسليمان الصانع ومساعد الساير بالاضافة الى تجار كويتيين آخرين ربما غير مسجلين بشكل رسمي، فقد كانوا يأتون الى بومباي في الشتاء ويعودون الى الكويت في الصيف، اي انهم يمكثون في الهند لفترة تمتد من 8 الى 9 اشهر، ومن اشهر هؤلاء عبدالعزيز حمد الصقر ومحمد عبدالمحسن الخرافي وآخرون عملوا هناك.

بين البصرة وبومباي
أما السعوديون، فلهم ثلاثة مكاتب وهم: محمد علي زينل على رضا، وصالح ومحمد العلي البسام، وعبدالرحمن وعبدالله البسام. وكان مكتبهم الأول الذي اسسه والدهم عبدالعزيز البسام في كلكتا وبعدها انتقلوا الى بومباي. واتذكر ايضا بعض البحرينيين الذين كانوا متواجدين مثل أحمد عبدالرحمن الزياني وشيخ مصطفى والشيخ اسحاق.
وفي هذا المقام لابد من الحديث عن مزايا وصفات التجار الكويتيين في الهند يقابلهم تجار كويتيون في البصرة وهي أكبر منتج للتمور، يضاف لها تملكهم للسفن الكويتية "الابوام" التي تشحن فيها التمور الى الهند السوق الاساسي لبيع التمور. هذه الأبوام تتجه إلى ميناء كراتشي أولا حيث ينشط في ذلك الميناء من الكويتيين كل من محمد المرزوق وعبدالرحمن الشاهين ومحمد الداوود المرزوق وآخرين لا اتذكرهم جيداً لأنني لا أستقر في هذه المدينة ،و بعدها تتجه بعضها الى ميناء بور بندر، حيث يوجد محل لعائلة الصقر هناك، وكان نشاط الصقر يتركز في تجارة التمور، وكان يشرف عليه لفترة طويلة المرحوم عبدالعزيز حمد الصقر، وبعدها تتجه بقية الابوام الى "فيراول" حيث يتواجد محمد ثنيان الغانم الذي ربطته علاقة مباشرة مع الصقر في ذلك الوقت. وكذلك ميناء عدن الذي يتواجد في خالد العبداللطيف الحمد.
غير أن اغلب الأبوام كانت تصل الى بومباي محطتها النهائية، فمنها يمكن التزود بالبضائع التي تعود بها هذه الأبوام الى الكويت، وفي حالة عدم حصولها على بضائع يذهب قسم منها كاليكوت وقسم آخر يذهب إلى افريقيا لشحن الجندل من كي مايو أو موانئ اخرى حيث كانت تجد فيها دائماً ما يمكن شحنه في رحلة العودة مثل انواع الاخشاب الخاصة بالنجارة وصناعة الابوام التي كانت قائمة على قدم وساق في الكويت. وفي كاليكوت كان يوجد يوسف صقر العبدالله وهو الكويتي الوحيد، وكان يتمتع بحظوة متميزة، اما بقية المكاتب في تلك المدينة فكانت تعود ملكيتها للهنود وحدهم وبعض السفن تتجه الى قوا وهي ميناء يسيطر عليه البرتغاليون.
وهكذا نرى أن الكويتيين الموجودين في قوا في ذلك الوقت، ومنهم حمود النصف ومرزوق بودي، واسماعيل العبدالرزاق وعلي حسين الابراهيم وعبدالعزيز الجلال وآخرون، كانوا يسيطرون على الموانئ الرئيسية الخمسة في الهند، وهي بومباي – كراتشي –فيراول–بوربندر–كاليكوتبالاضافة الى مدينة قوا وهي تحت الاحتلال البرتغالي، فضلاً عن سنغافورة، وكان يوجد فيها محمد العبدالعزيز العبدالرزاق، وقد تميز كل هؤلاء بالتعاون الشديد في ما بينهم، ومساعدتهم بعضهم البعض، بالإضافة الى مقدرتهم الكبيرة على الجلد في العمل ومواهبهم المشهود لها في عمليات الاستيراد والتصدير وغيرها من متطلبات العمل التجاري.
ولابد من الاشارة الى ان ما جعل التجارة الكويتية تتقدم على سواها هو ان كل بواخر الشحن التقليدية كانت في ذلك الوقت تحديداً منشغله في الحرب العالمية الثانية ومتطلباتها. اما الاسطول الكويتي، فقد كان يتنمى باطراد مما جعله يملاْ الفراغ الشاغر الذي تركته كل سفن وبواخر البلدان الاخرى العاملة في الخليج، بكل مسؤولية واقتدار. وقد قدر عدد ابوام الشحن الكويتية ب 200 بوم كلها تعمل في البحر بين الخليج والهند وأفريقيا وعدن. بالإضافة الى 600 سفينه صغيرة للغوص وللسفر داخل الخليج، والمذكور في كتب التاريخ أن مجموع السفن 800 سفينه.

No comments:

Post a Comment